لم يعد الانقسام بين الناس مجرد اختلاف في الرأي أو تباين في المواقف، بل تحول إلى ظاهرة يومية تُدار على ساحات التواصل الاجتماعي كأنها ساحات حرب مفتوحة.
كل شأن، مهما بدا صغيرًا، قابل لأن يتحول إلى معركة، وكل قضية، مهما كانت هامشية، تُستنزف في جدل لا ينتهي.
هنا لا نرى مجتمعًا يناقش نفسه، بل قبائل رقمية تتناحر بلا أرض ولا حدود، كأن مصر والعرب جميعًا قد توزعوا بين غرف صدى مغلقة، كل غرفة تصرخ وحدها ولا تسمع غير نفسها.
هذه ليست صدفة عابرة، ولا مجرد انعكاس طبيعي لاختلاف الآراء؛ إنها علامة على تحول عميق في بنية المجال العام.
انتقلت السلطة من الصحف والبرامج إلى الخوارزميات، ومن المؤسسات إلى المنصات، ومن الحوار إلى الاستقطاب. ومع هذا التحول تضاعفت سرعة انتشار الترهات، وضعفت ذاكرة النقاش، فصار التوافق حدثًا نادرًا، والانقسام مادة يومية قابلة لإعادة التدوير بلا نهاية.
لم يدخل العرب هذه الساحات بصفحة بيضاء. حملوا معهم تاريخًا طويلًا من الاستقطابات الفكرية والسياسية.
ما كان يومًا خلافًا بين قوميين وإسلاميين وليبراليين ويساريين، على مشاريع ورؤى وسياقات، صار اليوم معارك افتراضية تُدار بلا ذاكرة ولا عمق. في الماضي كان الخلاف يدور حول برنامج أو تصور للمستقبل، أما الآن فقد اختُزل إلى صراع على «الترند»، حيث تُستبدل الفكرة بالصورة، والبرنامج بالشعار، والسياسة بانفعال لحظي لا يعيش أكثر من ساعات.
ومع ذلك، لا يمكن اعتبار ما يجري طبيعيًا بالكامل.
فهناك يد تُدير وتُضخّم. جيوش إلكترونية منظمة، وغرف عمليات رقمية، ومصالح دولية وإقليمية، تستثمر جميعها في تغذية الانقسام، لأن المجتمع الممزق أضعف من أن يواجه تحدياته الكبرى. الاختلاف طبيعي، بل ضروري، لكن المصنّع هو تحويله إلى حالة شلل عام، تُفقد الثقة وتُعطّل القدرة على بناء موقف جماعي.
في مصر يبدو المشهد أكثر وضوحًا.
حين يضيق المجال العام التقليدي، يهرب الرأي إلى الفضاء الرقمي، لكنه يصل إليه بلا مؤسسات تحمي جودة النقاش أو تضبط إيقاعه. فتتقدم الضجة على المعنى، ويحل المؤثر محل المفكر، وتتحول السياسة إلى مزاج متقلب. هذا الفراغ المؤسسي يجعل الانقسام الرقمي يبدو كأنه القبيلة الجديدة، حيث تعيش كل مجموعة داخل غرفة صدى خاصة، لا ترى إلا ما يوافقها، ولا تسمع إلا صوتها.
هنا يلتقي الانقسام الرقمي مع معركة الوعي ضد التطبيع. فالصراع لم يعد على الأرض وحدها، بل على تعريف الواقع ذاته. حين تُفتّت المنصات الجماعات إلى جزر معزولة، تضعف القدرة على بناء موقف جمعي طويل النفس، وتتحول المقاومة إلى حملات خاطفة بلا استراتيجية.
بهذا المعنى، يخدم الانقسام مشاريع الهيمنة أكثر مما يخدم مصالح العرب، لأنه يستهلك طاقتنا في صراعات داخلية ويمنعنا من صياغة رؤية مشتركة.
الانقسام الرقمي الذي نعيشه اليوم ليس قدرًا محتومًا، بل صناعة تُغذّيها الخوارزميات وتستثمر فيها قوى ترى في ضعفنا فرصة لتمرير مشاريعها.
لكن التاريخ يعلّمنا أن الشعوب لا تُهزم بالانقسام وحده، بل حين تفقد القدرة على تحويل اختلافها إلى طاقة بناء. الخروج من القبائل الافتراضية يبدأ باستعادة المعنى، وإعادة الاعتبار لمؤسسات تحمي النقاش، وتحويل الغضب إلى برنامج، والوعي إلى فعل.
ويبقى الدور الحاسم للمتفاعلين أنفسهم.
فهم ليسوا متفرجين، بل المادة الخام التي تُغذّي المنصات. كل تعليق، وكل مشاركة، وكل إعادة نشر، طاقة قد تُحوّل الخلاف إلى معركة.
المطلوب أن يتحولوا من وقود للانقسام إلى وعي يواجهه: أن يتحققوا قبل التفاعل، وأن يديروا غضبهم بدل إطلاقه في شتائم متبادلة، وأن يكسروا غرف الصدى بقراءة المختلف، وأن يُنتجوا محتوى بديلًا يفتح أفقًا جديدًا.
والأهم أن يُحوّلوا التفاعل الرقمي إلى فعل جماعي في الواقع، عبر ورش قراءة وحملات توعية ومشاريع مدنية. عندها يصبح التفاعل بداية لا نهاية، ويستعيد الفضاء الرقمي وظيفته الطبيعية:
ساحة للنقاش، لا ساحة للتمزق.
-----------------------
بقلم: محمد حماد







